وقريب من هذا قول بعضهم إن الحروف العربية غير المفهومة المفتتح بها أوائل بعض السور إما أن يكون قصد منها التعمية أو التهويل أو إظهار القرآن في مظهر عميق مخيف أو هي رمز للتمييز بين المصاحف المختلفة ثم ألحقها مرور الزمن بالقرآن فصارت قرآنا
وننقض هذه الشبهة بأمور أولها أنه لم يكن للرسول كتبة من اليهود أبدا
وها هو التاريخ حاكم عدل لا يرحم ولا يحابي فليسألوه إن كانوا صادقين
ثانيا أنه لا دليل لهم أيضا على أن فواتح هذه السور تستعمل في تلك المعاني التي زعموها وهي أوعز إلي محمد أو أمرني محمد لا عند اليهود ولا عند غيرهم في أية لغة من لغات البشر
ثالثها أن اليهود لم يعرف عنهم الطعن في القرآن بمثل هذا
ولو كان هذا مطعنا عندهم لكانوا أول الناس جهرا به وتوجيها له لأنهم كانوا أشد الناس عداوة النبي والمسلمين يتمنون أن يجدوا في القرآن مغمزا من أي نوع يكون ليهدموا به دعوة الإسلام
كيف وهم يكفرون به حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق رابعها أن اشتمال القرآن على كلمات غير ظاهرة المعنى لا ينافي وصف القرآن بأنه بيان للناس وهدى ورحمة فإن هذه الأوصاف يكفي في تحققها ثبوتها للقرآن باعتبار جملته ومجموعة لا باعتبار تفصيله وعمومه الشامل لكل لفظ فيه
ولا ريب أن الكثرة الغامرة في القرآن كلها بيان للتعاليم الإلهية وهداية للخلق إلى الحق ورحمة للعالم من وراء تقرير أصول السعادة في الدنيا والآخرة
وهذا الجواب مبني على أحد رأيين للعلماء في فواتح تلك السور وهو أن المعنى المقصود غير معلوم لنا بل هو من الأسرار التي استأثر الله بعلمها ولم يطلع عليها أحد من خلقه
وذلك لحكمة من حكمة تعالى السامية وهي ابتلاؤه سبحانه وتمحيصه لعباده حتى يميز الخبيث من الطيب وصادق الإيمان من المنافق بعد أن أقام لهم أعلام بيانه ودلائل هدايته وشواهد رحمته في غير تلك الفواتح من كتابه بين آيات وسور كثيرة لا تعتبر تلك الفواتح في جانبها إلا قطرة من بحر أو غيضا من فيض
فأما الذين آمنوا فيعلمون أن هذه الفواتح حق من عند ربهم ولو لم يفهموا معناها ولم يدركوا مغزاها ثقة منهم بأنها صادرة من لدن حكيم عليم عمت حكمته ما خفي وما ظهر من معاني كتابه ووسع علمه كل شيء عرفه الخلق أو لم يعرفوه من أسرار تنزيله
ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء 2 البقرة 255
فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشبه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله 3 آل عمران 7