ثالثا أن في مضامين تلك الأقسام بالحسيات أسرارا تنأى بها عن السذاجة والبساطة وتشهد ببراعة المخاطبين بها وتفوقهم في الفهم والذكاء والفصاحة و البيان
ذلك أن القسم بها كما قلنا إشارة إلى الأسرار العظيمة التي وضعها الله في تلك الأمور التي أقسم بها
حتى صح أن يكون مقسما بها
وتلك الأسرار لا يدركها إلا اللبيب لأنها غير مشروحة ولا مفسرة في القرآن الكريم فلا يفهمها إلا من كمل عقله وسلم ذوقه
ولنشرح لك بعض الأسرار ليتبين الحال ولا يبق للشبهة مجال
المثال الأول أقسم الله سبحانه بالضحى والليل في قوله والضحى واليل إذا سجى ما ودعك ربك وما قلى وللأخرة خير لك من الأولى ولسوف يعطيك ربك فترضى 93 الضحى 1 - 5 وسبب نزول هذه الآيات أن النبي فتر عنه الوحي مرة لا ينزل بقرآن فرماه أعداؤه بأن ربه ودعه وقلاه أي تركه وأبغضه فنزلت هذه الآيات مصدرة بهذا القسم مشيرة إلى أن ما كان من سطوع الوحي على قلبه بمنزلة الضحى تقوى به الحياة وتنمى به الناميات وما عرض بعد ذلك من فترة الوحي فهو بمنزلة الليل إذا سجى لتستريح فيه القوى وتستعد فيه النفوس لما يستقبلها من العمل
ومن المعلوم أن النبي لاقى من الوحي شدة أول أمره حتى جاء إلى خديجة رضي الله عنها ترجف بوادره كما هو معروف في حديث الصحيحين
فكانت فترة الوحي لتثبيته عليه الصلاة و السلام وتقوية نفسه على احتمال ما يتوالى عليه منه حتى تتم به حكمة الله في إرساله إلى الخلق
ولهذا قال له وللأخرة خير لك من الأولى أي إن كرة الوحي ثانيا سيكمل بها الدين وتتم بها نعمة الله على أهله وأين بداية الوحي من نهايته وأين إجمال الدين الذي جاء في قوله اقرأ باسم ربك الذي خلق 96 العلق 1 الخ
من تفصيل العقائد والأحكام الذي جاء في مثاني القرآن ثم زاد الأمر تأكيدا بقوله ولسوف يعطيك ربك فترضى
فمن هذا نعلم أن الحلف بالضحى والليل في هذا المقام ليس مجرد تذكير بآياته ونعمه فحسب
بل هو أيضا إقامة دليل على أن تنزل الوحي أشبه بضحوة النهار وأن فترة الوحي أشبه بهدأة الليل فإذا كانوا يتقبلون الضحى والليل بالرضا والتسليم لما فيهما من نفع الإنسان بالسعي والحركة والحياة بالنهار والنوم والاستجمام بالليل يجب أن يتقبلوا أيضا ما يجري على محمد من نزول الوحي وفترته للمعنى الذي سلف
المثال الثاني أقسم الله سبحانه بالتين والزيتون في قوله جل ذكره والتين والزيتون وطور سينين وهذا البلد الأمين لقد خلقنا الإنسن في أحسن تقويم 95 التين 1 - 4 قال العلامة المرحوم الشيخ محمد عبده عند تفسيره لهذه السورة ما نصه